إنه أنا مجدداً ..

لم تمض أكثر من بضع ساعات منذ أستوقف البيدق راضى بمنتصف الشارع ..

و الآن .. تقترب الساعة من الخامسة عصراً ..

عصر الصيف فى القاهرة ..

حيث يتنافس المزدحمون من البشر فى الشوارع فى الظفر بنفس نقى من الهواء ..

حيث تعلن القاهرة نفسها غضبها و تصب نيران حرها بين الطرقات لعلها تستحم من كل هذا الزحام ..

و لكن هيهات ..

يقولون أنه لو حدثت حرب عالمية نووية .. و إنقرض البشر .. لظلت الصراصير على قيد الحياة نتيجة لقدرتها على التأقلم ..

لطالما ظننت أنه لو حدث هذا بالفعل .. سينجو الكثير من المصريين القاهريين أيضاً ..

أتخيل دائماً الإنفجارات تحدث و المبانى تسيح و الأشجار تحترق .. بينما يقوم رجل مصرى يتساقط جلده بوضع عدد من الكراسى البلاستيك الرخيصة على الحطام بهمة و نشاط قائلاً فى تعجل ” تشرب حاجة يا أوستاذ .. شاى بالنووى ولا من غير ؟ ” ..

أحد المعلومات الأساسية لمن درس الفيزياء أو الهندسة أن إزدياد درجة الحرارة يكون بسبب زيادة الضغط ..

و لا أدرى أهو بسبب تلك الحرارة الشديدة أم الضغط المتراكم بداخلى على مدار أسبوعين كاملين لا أجد إجابات لأسئلتى سوى صمت مطبق من هذا الشخص العجيب بجانبى ..

أسبوعين كاملين حياتى فيهم كانت أقرب ما يكون للحيوان منه للإنسان ..

ولا أقصد بهذا فوضى أو بوهيمية فى المأكل أو المشرب أو الملبس .. إطلاقاً ..

بل عقلى هو ما يكاد يتمزق من تلك الحالة ..

بعدما هبطنا من سطح البناية و تركنا حقيبتى بلا أدنى معلومة لدى عن ما سأفعله الآن ..

مشيت بجانب البيدق .. فقط

سرت لمدة تقترب من الثلاث ساعات .. تكاد تبكى قدماى من فرط الألم .. بينما لا يبدو عليه إطلاقاً أى تعب أو إرهاق أو حتى تتأثر خطوته السريعة نسبياً ..

ذهبنا إلى أحد الفنادق ذات الحجم الصغير .. أو ما يسمى بهوستيل ..

لم يستوقفنا أحد إطلاقاً أثناء دخولنا للمكان .. يبدو أنهم يعرفونه من قبل أو أنه معتاد هنا .. لأنهم لم يبد عليهم أى تغيير حين دخلنا للمكان .. و لكن ما أدهشنى هو عندما سلمنى مفتاح لغرفة و قال لى ثلاث كلمات فقط : “إستحم – كل – نم ”

للوهلة الأولى لشخص مثلى يبدو هذا الأمر رائعاً و يصبو إليه عقلك ..

بعض العزلة إلى نفسك .. لم يكدب الكثيرون حين يقولون أن الدش هو أكثر مكان يبدع فيه عقلهم .. ببساطة بعد ضغط عقلى طويل .. يشتاق عقلك لأى نوع من العزلة و السكون حيث يقوم بإعادة ترتيب أفكارة و تصنيفها .. او بمصطلحات الكمبيوتر .. refresh and defragmentation .. يقوم موبايلك و حاسوبك بفعل هذا معظم الوقت أيضاً ..

و لم يضع عقلى لحظة واحدة فى الإستمتاع بالمياة الباردة .. بل لم يسمح لقطرة من الماء المنهمر على جسدى حتى أن تصل لروحى أو نفسى .. ظل يعيد أحداث الأربع ساعات السابقة بكل تفاصيلهم .. و عندما لم يجد إجابات لكل الأسئلة السابق ذكرها فى نهاية الفصل الأول .. بدأ فى فتح أرشيف ذكريات العام الماضى باحثاً عن أى لحظة أو شىء قد يقود إلى ما حدث منذ ساعات .

عام كامل كنت فيه أقرب ما يكون لعالم مجنون منى إلى شخص عادى .. عام كامل يقودنى هدف واحد .. عام كامل كان كل ما يشعرنى بالسعادة هى النشوة المنتظرة للحظة نهاية كل شىء ..

لا أدرى هل يشعر من يقومون بالأحداث التفجيرية المعتادة فى الأخبار بنفس ما شعرت به أم لا .. و لكن إن كان هذا ما يشعرون به حقاً فلابد إذن من أن العالم ملئ بأرواح على حافة الإنهيار .. أرواح قابلة للإشتعال … و أنا تم نزع فتيلى منذ ساعات .

صوت الماء فى أذنى يذكرنى بصوت المطر .. يذكرنى بالشوارع و الطرقات المبتلة .. برائحة المطر المميزة و ما يرتبط بها فذهنى من ذكريات .. و للوهلة الأولى أبدأ فى تذكر كلمات البيدق .. الموتى لا يقلقون .. إذن بالتأكيد تلك الدموع المتدفقة من عيناى مختبئة بين الماء المنهمر فوق رأسى ليست دموع قلق .. أو حزن .. أو أى إحساس سبق و شعرت به من قبل .. أنا أبكى .. و للمرة الأولى فى حياتى أبكى دون أن أدرك لما أبكى .. أبكى دون أن أتخيل أن هناك شىء ما قد يحدث ليجعلنى أتوقف عن البكاء .. أبكى دون ألم .. أبكى و كأن عقلى أيضاً رغب فى أن يستحم .. و ها هى المياه تنهمر من بلاعتين عيناى ..

..

لا أدرى إن كان ما أشعر به الآن خاص فقط بى .. أم أن حمام هذا الهوستيل هو السبب فى هذا الشعور بداخلى .. إلا أن ما أشعر به الآن من راحة و هدوء و سكينة كفيلين بتحويل هذا الهوستيل إلى منتجع سياحى 7 نجوم ..

قرأت فى مكان ما أنه فى الفنادق ذات الخمسة نجوم فما فوق .. يتركون لك شوكولاتة على وسائد السرير .. لا أدرى لماذا .. و فى السابق كنت سأرغب بشدة فى البحث أكثر عن حقيقة تافهه كتلك .. إلا أنى لا أهتم الآن .. ولم يذكرنى بهذا سوى كيس أسود ممتلئ موجود على سرير غرفتى .. لم يكن هنا حين دخلتها المرة الأولى .. و بداخله تشكيلة من الفاكهة و الخضروات ..

يبدو أن هذا ما عناه البيدق حين قال “كل ” .. هذا هو الأكل الذى سيجعلنى آكله إذن .. لا ضير فى هذا .. لم أحمل أبداً بداخلى مثل الكثيرين عداء لهذا النوع من الطعام المعتمد على الخضار و الفاكهة النيئة ..

لم يفكر عقلى فى شىء ما إطلاقاً و أنا ألتهم الثمرة تلو الأخرى .. بل لا أتذكر أنى تفقدت أى شىء فى الغرفة أو المكان المحيط بى .. ناظراً إلى لا شىء على الإطلاق .. لا أميز ما آكل إلا حين يدخل فمى و أبدأ فى تذكر طعمه ..

يبدو أن عقلى قد سبق جسدى إلى النوم إذن .. و لم يدعه جسدى ينتظر طويلاً ..

***

ما يلى و إن لم أكن جزء فى الأحداث .. إلا أن أصحابها قد قصوا على كل تفاصيلها لأسباب سأذكرها لاحقاً .. و دورى أن أتلوها على لسان أصحابها ..من وجهة نظر أصحابها ..

***

يقفون خلفه ينظرون إليه جالساً على تلك الصخرة بجانب النهر .. منظر معتاد بالنسبة لهم ..

إنه نهر التشاما .. أو كما هو متعارف عليه لأهل ميريدا .. ( المجارى ) ..

ميريدا أحد مدن فينزويلا .. الدولة المتربعة على قمة قارة أمريكا الجنوبية جغرافياً .. و ليس إقتصادياً بالتأكيد ..

ينظرون إلى ظهره العارى الطويل و عضلاته البارزة و شعره الأسود الفاحم المربوط على هيئة ذيل حصان يتدلى حتى منتصف ظهره ..

جالساً عاقداً قدميه تحته لا يفعل شىء سوى اللعب بعملة معدنية فى يده .. يلقيها فى الهواء لتلتف كأنها كرة .. ثم تسقط بين راحة يده اليمنى و ظهر اليسرى بنفس الطريقة المسماه فى مصر ب (ملك أم كتابة ) .. أو بالأنجليزية (coin toss) ..

لكنه لا ينظر للنتيجة ..

إنه يفعل هذا لوقت طويل بالتأكيد حيث يبدو على بعضهم التململ .. و لكن البعض الآخر يقف ينظر له فى ثبات بدون أدنى رد فعل ..

لم يدعهم ينتظرون أكثر من هذا ..

ألقى العملة فى الهواء ثم قام من جلسته فجأة بدون إستخدام يديه و إستدار ليتطاير خلفه شعره على هيئة قوس ..

ثم بدأ فى الحركة .. لم يجرى و لم يمشى أيضاً .. بل كأى لاعب باركور محترف .. يقفز على الصخور على ضفاف نهر التشاما ..

و لم ينظر للعملة أو حتى يهتم بها ..

مجرد ريال فينزويلى .. على أحد وجهيه منظر رأس إنسان يرتدى تاج ..

و على الوجه الآخر منظر معتاد فى عملات فينزويلا المعدنية ..

فرس ..