إذا كنت تقرأ تلك الكلمات , فهذا معناه أنى سمحت لك أن تعيش ليوم أكثر ..

معناه أنى لم أقرر أن أقتلك بعد ..

و معناه أنى ما زلت أتبعه ..

و كم أكره أن أتبعه ..

و قد يكون الشىء الوحيد الذى كرهته أكثر من تبعيتى له .. هو كتابة تلك السطور ..

كم أكره أن أكتب .

أن أظل حبيس قلم وورقة لفترة من الوقت محاولاً شرح شىء ما لشخص ما ..

حتى و إن كان هذا الشخص هو أنا .. نفسى ..

و لكنه شرط من شروط العقد بينى و بينه ..

أن أكتب .. أدون .. أنقل ..

و أقص ..

أقص كل شىء .. منذ البداية .

كان بإمكانى التخلص منك بسهولة ..

لم تكن لتدرى ماذا حدث لك ..

كنت فقط .. ستنتهى ..

تسير فى حياتك تظن أن الزمن كله ملكك ..

و كل ما سأحتاجه لأثبت لك أنك لا تملك شىء من حياتك على الإطلاق .. هو أن أضغط زر واحد ..

إذا كنت ممن تواجدوا بمحطة مصر بالقاهرة هذا اليوم , فهذا معناه أن حياتك كانت ملكى لبضع دقائق .. أنت و كل من تواجد بالمحطة فى هذا اليوم .. منظرى لا يوحى بأى شك على الأطلاق , أقف مرتدياً ملابس كالتى يرتديها أى شاب فى سنى , أقف فى منتصف صالة الإنتظار و على وجهى نفس علامات فقدان الأمل و اليأس التى توجد على وجوه كل من حولى .

أتابع بيعنين لا يبدو عليهما أى تعبير المحلات من حولى .. فقد توقفت من زمن عن محاولة تحليل أو تفسير أى من تلك المظاهر المختلفة فى التمدن أو التحضر المزيفة .. أو عن محاولة التفكير فى السبب الذى يدفع تلك الفتاة للإبتسام لهذا الشاب .. أو الظروف التى دفعت هذا الكهل ليسب و يلعن هذا العامل .. أصبح كل هذا مجرد ضوضاء بيضاء فى خلفية عقلى .

أشعر بالغثيان .. و لكنى أعتقد أن هذا طبيعى بالنسبة لشخص مقبل على تفجير نفسه و نصف مدينة القاهرة تقريباً معه ..

نسيت أن أخبرك أن تلك الحقيبة ضخمة الحجم بجانبى ليست سوى نتاج عام كامل من البحث و العمل على هندسة المتفجرات .. ليس صعب إطلاقاً على ششخص بمؤهلاتى الدراسية و إمكانيات الإنترنت أن يصمم شىء كهذا إذا كرس الوقت و المجهود الكافى لها ..

بالتأكيد سيكون من الممتع بالنسبة لشخص مثلى التباهى بفرد تفاصيل بناءها و كأننى أشرح لوحة أو عمل فنى متقن .. قد تشدك بعض المصطلحات هنا أو هناك .. قد تلتقط كلمك هيدرو فلوريك فى مكان ما و تبدأ بالبحث أنت أيضاً .. و لكنى لا أتخيلك تنتهى إلى ما إنتهيت إليه أنا ..

بإمكانى تصور نشرات الأخبار العالمية و هى تنقل تفاصيل الحدث بعد إنتهاءه .. لن يعانى هؤلاء المحيطين بى إطلاقاً … لن ينالوا وقت كافى أساساً ليعالج عقلهم الحقائق أمامهم و يدركوا أنهم يموتون من تأثير إنفجار قنبلة كهذه ..



هؤلاء الذين يجلسون فى بيوتهم فى أمان هم الضحايا الحقيقيين .. هم من سيشاهدون سماء مدينتهم تتحول تدريجياً للأصفر القاتم .. لن ينتبهوا أو يتغير شىء فى تفكيرهم .. هم إعتادوا هذا المنظر على مدار الخمسين عام السابقين .. إلا أن هذا اللون لن يكون نتاج عوادم أو أدخنة كما إعتادوا .. بل سيكون جحيم من الغازات السامة التى ستقتلهم خلال الدقائق الأولى من إستنشاقها ..

و حتى هؤلاء سيكون مصيرهم أرفق ممن ستقتلهم الفوضى .. و نحن حقاً نمتلك الكثير منها .

كلما تذكرت كل تلك التفاصيل يزداد شعورى بالغثيان .. لابد أن أسيطر على هذا الشعور .. سيكون من المخزى حقاً أن تكون آخر كلماتى على سطح الأرض هى “عااا.. أوععع ” .

إنحنيت على حقيبتى و مددت يدى إلى الزر بجانبها .. طبعاً لم أعبأ بجعلها قابلة للإنفجار عن بعد .. أو جعلها بمؤقت أو ما شابه ..

طباخ السم لابد أن يتذوقه .. و كم أتشوق لتذوق هذا السم معكم جميعاً ..

“بووووووم”

بالتأكيد لم يكن هذا هو صوت إنفجار القنبلة ..

كان شخص ما يقف خلفى مباشرة ..

آلاف الأفكار مرت برأسى فى الثانية التى إستدرت لمواجهته فيها ..

طويل القامة .. أبيض .. هذا كل ما سيطر على تفكيرى فى تلك اللحظة .. لم تكن ملابسه بيضاء .. بل كانت أقرب إلى الرمادى الفاتح .. و لكن كل شىء فى شكله يوحى بالبياض .. لم يكن أمهق إن ظننت هذا .. بل لون بشرة معتدل .. شعر وجهه و رأسه نامى بنفس الطول .. كأنه لم يحلق منذ أسبوعين تقريباً ..

و لكن شىء ما به أبيض .. إذا كان للروح لون .. فهذا الرجل روحه لونها أبيض .. جداً

واضعاً يديه فى جيبى بنطاله .. يقف و كأنه مرتكزاً على حائط وهمى .. ناظراً للا شىء .. و عينيه تحمل تعبير عدم الإكتراث بأى شىء ..

نظرت له و لم أدر ماذا أقول !!

و كأن عقلى قد صدق أن جسدى قد ضغط على زر القنبلة بالفعل .. و مات .. و توقف عن التفكير ..

بعد ما يقرب من نصف الدقيقة .. بصوت يبحث عن هويته .. قلت ” ماذا تريد ؟! “

حاولت جعل نبرة صوتى طبيعية كنبرة صوت أى شخص كان يقدم على تفجير قنبلة و أستوقفه أحدهم .. إلا أن كلماتى بدت و كأنها إعتراف مكتوب و ممضى عليه أيضاً .

رد بتلقائية ” القاعدة الأولى .. لا تسأل “

كان من الطبيعى أن أسأل ” أى قاعدة .. و أولى فماذا ؟!! “

رد و كأنه يشرح لطفل صغير .. ” الموت .. القاعدة الأولى فعالم الموتى “

بدت منى نظرة أخرى للحقيبة .. أتأكد من أنى لم أضغط الزر فعلاً .. من أنى لم أمت .. و أن كل من حولى ما زالوا على نفس حالتهم .. إذن ماذا يعنى ..

و كأنه يقرأ أفكارى .. نظر للا شىء حولى و بدا و كأنه مشغول و ينتظره ميعاد مهم .. فسار فإتجاه باب المحطة .. و بلهجة آمرة قال ” هيا ” ..

تتبعته بلا تفكير .. و كأن هذا هو التصرف الوحيد المتاح لى .. و كأن أى تصرف آخر كان غير مجدى فى تلك اللحظة ..

لولا أنى مدرك أن الفرق بين الحلم و الحقيقة هو أن بمجرد إدراكك أنك تحلم … تستيقظ .. لظننت أنى فى حلم ما .. لأنى حتى الآن لا أتذكر كيف إنتقلنا من المحطة المكتظة بالبشر .. إلى سطح تلك البناية المواجهة لها .. على إرتفاع ما يقرب من عشرون طابق .. جلس هذا الشاب على الحقيبة و كأنها حقيبة ملابس عادية غير ممتلئة على الإطلاق بمجموعة من أخطر المواد (القذرة كما يقولون) .. و تنتظر فقط ضغطة زر لتتحول إلى كابوس .

أجبرنى هذا التصرف على تأمله أكثر .. بالتأكيد هو أبعد ما يكون عما تجعلنا السينما نتصوره عن بطل أفلام الأكشن .. ليس مفتول العضلات و نظارة الشمس لا تفارق عيناه .. بل على العكس .. هو بسيط جداً .. بسيط كمئات البشر الذين يعبرون بجانبك كل يوم .. فلا يطرف لك جفن .. يغمره العرق بغذارة و لكنه يبدو و كأنه لا يعبأ بذلك .

ما زال ينظر للا شىء .. و كأنه دائماً فى حالة تأمل .. إنتظرت أن يبتدى بالحديث .. و لكنه كان صامتاً و كأنه لا ينوى الحديث إطلاقاً .. و كأنه بمفرده .. كأنى غير موجود .

حاولت أن أبدأ أنا بالأسئلة .. إلا أن وضعى كان أخطر من أن أبدى أكثر مما يجب ..

نعم أنا كنت أنوى تفجير نصف القاهرة ..

نعم الحقيبة تحتوى على واحدة من أخطر القنابل المعروفة ..

نعم كنت أنوى الإنتحار و إنهاء حياتى ضمن كل هذا ..

نعم متأكد من أحد لم يكن يراقبنى أو على علم بما فعلت طيلة السنة الماضية ..

بل من المستحيل أن يكون أحد على علم بهذا ..

إذن كيف ؟

كيف يعلم أن الحقيبة بها قنبلة ؟

كيف يعلم أنى لا أحمل زر تفجير عن بعد يجعلنى أنهى هذا الموقف فى لحظة ؟

لا أتوقع أنه قد قام بكل هذا بمحض الصدفة  ..

لست أتوقع أنه يسير يومياً مثلاً إلى الشباب البائس الشبيه بى فى محطات القطار .. و يقف خلفه .. ثم يقول ” بوووم ” … و ينتظر رد فعل الشاب ..

الشىء الوحيد الذى قاله هو أن القاعدة الأولى فعالم الموتى هى ألا أسأل ..

و لكنى لم أمت بعد ..

الموتى لا يشعرون بالجوع و العطش ..

ما زالت إنطباعاتى عن العالم ثابتة لم تتغير .. إذن ما زال جسدى و عقلى و أعضائى تعمل ..

أى موت إذن يتحدث عنه ؟

إذن كما ينص مقص أوكام .. إذا تعددت الإحتمالات كان أصوبها هو أقربها للمعقول ..

هذا الرجل لا يدرى أى شىء ..

أعتقد أنى ضحية عملية نصب .. و أن فى أى لحظة الآن سيظهر أصدقائه ليسرقوا ما يظنون أنى أملكه ..

و لكنهم سيكتشفون المفاجأة الغير سارة .. و هى أنى أرحب جداً بالموت ..

و لكنى سآخذهم جميعاً معى ..

الهجوم إذن خير وسيلة للدفاع ..

أخذت نفس عميق .. و بمجرد أنى هممت بالصراخ فيه ..

قال بهدوء ” لم تستمر بفعل هذا ؟ “

ما زلت ثائر … رددت بعصبية ” فعل ماذا ؟ “

قال بهدوء ” تفكر “

رددت بتساؤل ” أفكر ؟”

قال ” نعم .. تفكر .. تحلل .. تفترض إحتمالات و تحاول أن تحسب ماذا تخبئه لك اللحظة القادمة .. لكى تأخذ إحتياطات تعتقد أنك تحتاجها .. “

ألجم لسانى و حملقت فيه مشدوها ً … أمن الممكن ؟ … أهو يقرأ الأفكار ؟ ..

و كأنه يحاول إثبات تلك الفكرة قال بهدوء .. ” لا .. أنا لا يمكننى قراءة الأفكار “

و قبل أن يترك لى المجال لأتعجب أكثر .. قال ” ألم يكن تفكيرك هو ما قادك أن تنهى حياتك بهذا الشكل ؟ “

صحت فيه ” حياتى لم تنتهى بعد .. أنا لست ميت “

نظر لى و حملت عيناه قدر من الإبتسامة الساخرة .. ثم ربت مرتان على الحقيبة التى يجلس عليها ..

هو يعلم إذن .. كيف ؟

لا يهم هذا الآن ..

طالما يعلم .. إذن لا داعى لإطالة هذا أكثر مما ينبغى ..

“نعم أردت أن أنهى حياتى .. و حياتك .. و حياة كل هؤلاء الحشرات بالأسفل ” .. و أشرت إلى البشر المزدحمين فى تلك الساعة فى هذا المكان من العاصمة .. من الطابق العشرون يبدون و كأنهم مجرد حشرات .. حشرات تفتقد إلى أى نوع من النظام أو الهدف .

لم يبدو و كأنه تأثر إطلاقاً بكلامى .. و قال بهدوء و بأسلوب يبدو مسرحى ..

” إسمى البيدق .. و من الآن فصاعداً أنت أصبحت تابع لى .. أنا أمتلكك بالكامل .. لا يحق لك إتخاذ أى قرار .. أو حتى التفكير فى أى قرار إلا بقواعدى “

هذا بالتأكيد شخص مجنون إذن إذا ظن انى سأستمع لترهاته لحظة أخرى … إلا أنه أكمل قبل أن أصيح فيه ” كل قراراتك السابقة .. قادتك إلى النقطة التى كنت فيها منذ بضع دقائق .. تفجير نفسك و نصف مدينة معك .. “

” لا أحد يعلم ماذا يحدث بمجرد إنتهاء عمرك .. لا أحد يعلم ماذا هناك فى الجانب الآخر .. فى الموت “

” أنا أعطيك الفرصة لتجرب شيئا مختلف .. جديد “

” أنا أعطيك الفرصة لأن تحيا قبل موتك … حر”

للمرة الأولى قام من على الحقيبة .. و وقف بجانبى ناظراً إلى المارة أسفل البناية .. ثم قال

” عبيد … هؤلاء جميعاً عبيد .. و أصبحوا يتكاثرون بمعدلات أكثر مؤخراً “

لسبب ما وجدتنى أجاريه فى هذا النقاش و أرد عليه ” هذا غير حقيقى .. معدلات تكاثر البشر قلت خلال القرن الأخير مقارنة بالقرون السابقة “

رد ببساطة ” أنا لم أقل أن البشر أصبحوا يتكاثرون أكثر ” .. ثم للمرة الأولى على الإطلاق نظر مباشرة فى عينى و قال .. ” العبيد .. هم من إزداد تكاثرهم “

“و أنت عشت الجزء الأعظم من عمرك فى صراع مع عبوديتك “

رددت بعنف “أنا لست عبد لأحد “

إتخذ نفس عميق كمن يستعد للشرح .. ثم قال ” منذ ولادتك و أنت تعيش وفقاً لقواعد و قوانين تم وضعها من قبل أشخاص لا يعبئون سوى بمصلحتهم الشخصية .. إلتحقت بمدرسة لتتعلم كيف تكون موظف .. ترس فى ماكينة ضخمة تنتج الرفاهية لمالكها .. إلتزمت بالقوانين خائفاً من سوط الشرطة و القضاء .. فى حين يشترى غيرك تذكرته للمرور من تلك القوانين بدون أى مشاكل .. حتى فى علاقاتك العاطفية .. عشت عبد لمشاعر ظننت أنها مؤثرة .. فى حين أنك لو مت فى أى لحظة سيمحيك النسيان فى بضع شهور بدون أى مجهود “

نظرت إلى الزحام بأسفل العقار قائلاً ” كلامك ينطبق على غالبية الأشخاص هناك “

نظر إلى و فى عينيه لمحة سخرية قائلا ” بالضبط “

“أليس هذا هو السبب الذى دعاك لإتحاذ قرار كهذا ؟ ” .. قالها مشيراً للحقيبة

صمتى كان أبلغ إعتراف بالجريمة .. إلا أنه تابع بلا إكتراث لنظرة الذنب فى عينى ” رغبتك فى الخروج من تلك العبودية ؟ “

“مرحى لك إذن .. أنت حر الآن .. ميت على قيد الحياة “

” الإختيار أمامك الآن “

“تثورعلى حياتك و تتبعنى كميت … أو تحيا عبداً بينهم ” .. و أشار للبشر بالأسفل .

سألت ” ما المقابل ؟ “

أجاب ببساطة ” القاعدة الأولى فى الموت .. الموتى لا يسئلون مقابل .. أبداً “

ثم إتجه ناحية باب سطح البناية .. و بدون تفكير وجدتنى أتبعه ..ثم سألته ” هل ستترك الحقيبة هنا ؟ “

أجاب دون أن ينظر أو يتوقف ” لم تهتم ؟ .. القاعدة الثانية .. الموتى لا يهتمون أو يقلقون أو يخافون “

كنت على وشك السؤال عن تلك القواعد .. إلا أنه أخرج يده من جيبه مشيراً بثلاثة أصابع قائلاً ..

“القاعدة الثالثة .. لا تتعجل العلم .. و عندما يأتيك .. كن مستعداً للتعلم “

ثم صمت ..

و أدركت أنه لن يقول أكثر .. و أنى لن أحتاج أن أسمع أكثر ..

صوت بداخلى ظل يصرخ أن أستدير .. أضغط على الزر .. أنهى ما بدأته ..

إلا أنى كلما إبتعدت عن الحقيبة نازلاً درج البناية .. إنخفض هذا الصوت أكثر فأكثر ..

إلى أن خرجت من باب البناية .. أصبح كل شىء فجأة مختلفاً .. و كأنى فعلاً قد مت .. أو ولدت من جديد ..

المارة فى كل مكان يعبرون من حولى .. إلا أنى لا أعبأ بهم إطلاقاً ..

العقل الذى كان يفكر و يحلل كل شىء … توقف ..

ذهنى خالى تماماً إلا من الثلاث قواعد التى ألقاها على مسامعى هذا السائر أمامى .. البيدق ..

فى عالم الشطرنج البيدق أو العسكرى هو أصغر القطع حجماً … و أضعفها تأثيراً

لكن المحترفون فقط يعلمون أن بيدق .. مجرد بيدق .. قد يغير مجرى مباراة بأكملها من خسارة محققة .. إلى فوز.

و الآن أصبحت أنا تابعاً لبيدق ..

لم أعد أعبأ أين سأهذب .. أين سآكل .. أين سأنام ..

لأول مرة أشعر بتلك الحرية ..

 حرية ميت .. على قيد الحياة .

***

إنتظروا الفصل الثانى …