ما يلى و إن لم أكن جزء فى الأحداث .. إلا أن أصحابها قد قصوا على كل تفاصيلها لأسباب سأذكرها لاحقاً .. و دورى أن أتلوها على لسان أصحابها ..من وجهة نظر أصحابها ..

***********

ديس با  سيتو ..

كويرو ريسبيرار تو كويلو ديسباسيتو ..

ديجا كى تى ديجا كوساس آل أوليدو ..

بارا كى تى أكويردي سي نو إستاس كونميجو ..

ديس با سيتو ..

..

لن أقارن بين ألحاننا و ألحانكم .. أو أغانينا و أغانيكم ..

لن أجيب حتى على سؤالك بمن أقصد أو أخاطب هنا ..

أخاطب العالم أجمع .. لن يفرق هذا فى شىء ..

ألحاننا بالنسبة للعالم .. كالألوان بالنسبة لخطوطك السوداء على ورقة بيضاء ..

كالتوابل بالنسبة لوجبة لم يكن لها طعم ..

قارة بأكملها إتفقت على هذا .. بينما مازال العالم دول فى إختلافاته ..

نحن اللاتينوز ..

..

في وقت من الأوقات منذ زمان بعيد .. كانت حضاراتنا تحكم عوالمكم .. قد تكون سمعت عن حضارات الإنكا فى بيرو , أو حضارات ما وراء جبال الأنديز .

قد تكون سمعت عن المايانز .. بل لابد أنك سمعت عنهم منذ 5 سنوات .. عندما راقب الجميع عقارب ساعاتهم منتظرين معرفة إذا ما كان العالم حقاً سينتهى فى 2012 .. أم أن حسابات المايانز كانت خاطئة ..

فى المعتاد عندما أبدأ فى التحدث بخصوص تلك الأمور .. يصمت الجميع و يرهف السمع ..

أكاد أسمع أفكارهم .. ” الآن سيخبرنا بما يعرف ” .. ” الآن سيكشف عن أسرار حضارات المايانز و عن ماذا حدث حقاً فى 2012 ” ..  ” الآن سيكشف البيون العجوز عن شىء مهم ” ..

أضحك بشدة ..أضحك أكثر مما يحتمل جسدى النحيل القصير .. أضحك كلما أرى كيف يترك الكثيرون العنان لفضولهم كفرس جامح غير مروض .. و كم أعشق أنا أن أداعب هذا الفرس البرى بداخلهم ..

عندما تستثير فضول أحدهم .. يبدأ يطاردك حتى نهاية العالم لإشباع هذا الفضول .. فى حين أنه نفسه لا يتحكم فى فضوله هذا .. تلك ال طاقة الجبارة التى يسير فى نواحى الأرض و جوانبها بدون أن يستخدم منها أى جزء .. يتركها نائمة .. خاملة ..

أنت نفسك .. محاط دائماً بالعديد من الأسرار و الأسئلة التى لا تعلم إجاباتها .. و لكن فضولك نائم بداخلك .. لم تتعلم بعد كيف توقظه بنفسك ..

هل حقاً تعلم أى شىء عن ما يجرى بداخل الدوائر الإلكترونية الدقيقة ؟

هل تعلم أى شىء عن كيفية تصنيع ما ترتديه من ملابس ؟ .. ما تأكل ؟ .. ما تشرب ؟

بل هل لديك أدنى فكرة عن ماذا يحدث داخل جسدك حقاً من وظائف حيوية ؟

هل لديك أى معلومات عن جدودك ؟ .. ماذا أفنوا حياتهم فيه و هم يفكرون بك .. بينما أنت نسيتهم بالكامل .. لا تصدق أنهم كانوا يفكرون فيك أنت .. أخبرنى مرة أخرى عن ذريتك و أحلامك لأولادك و أحفادك .

لهذا أعشق أنا أن أوقظ هذا الفضول بداخلك .. أداعبه قليلاً .. أتأكد أنه ما زال حى ..

على مدار حياتى الطويلة .. لم أرى سوى ثلاثة أشخاص فقط إستطاعوا ترويض هذا الوحش بداخلهم الذى يدعى الفضول ..

إستطاعوا أن يتحكموا متى يوقظوه ليطارد المعلومات بلا كلل أو ملل حتى أقاصى الأرض ..

و متى يلجموه و يجبروه على السكون .. حتى و إن كانت المعلومات التى يتحرق إليها شوقاً مكتوبة على ورقة ملقاه على جانب الطريق ..

يتطلب هذا قوة إرادة لا يمتلكها سوى ندرة نادرة من البشر ..

أنت رأيت أحد هؤلاء الثلاثة من قبل .. رأيته من خلال عيناى جالساً على ضفاف التشاما (راجع البيدق االفصل الثالث) ..

و ها هو الآن مرة أخرى يرقص على ألحان تلك الأغنية الأشهر حالياً .. ديسباسيتو .. بين الجماهير الرابضة فى المظاهرات فى الشوارع طيلة الوقت الآن .. يرقص الكاباليرو .. بينما تجرى قوات أمن و جيش نيكولاس مادورو (رئيس فينيزويلا الحالى ) خلف فئات الشعب المختلفة المتظاهرة فى الشوارع .. يرقص الكالباليرو .. بينما يستمر مسلسل الفساد الهزلى فى تدمير فينيزويلا و إنتشار الفقر و المرض فى كل جهاتها .. و بينما يستفيد من هذا نيكولاس مادورو و جينيرالاته و يصبحون أغنى و أكثر سلطة و قوة … يرقص الكاباليرو ..

قليلون جداً من يدرون أن هذا الذى يرقص أمامهم بمهارة .. هو الكاباليرو ..

أسمر طويل ممشوق الجسد بارز العضلات كعارض جسد محترف .. أغلب الوقت تجده عارى الجزع .. هو من هؤلاء الأشخاص الذين لا تتعجب من وجودهم عاريين الجزع طيلة الوقت .. من يمتلك عضلات مثله لا يجب أن يغطى هذا الجسد بالملابس أبداً ..

منذ يومين أطلق نيكولاس مادورو و حزبه أغنية على نفس لحن و بها تشابه لكلمات الأغنية الأشهر .. ديسباسيتو .. لتشجيع الشعب على الذهاب للإنتخابات المزورة مسبقاً .. التى تضفى شرعية صورية على وجوده فى الحكم هو و حزبه ..

يظهر فى الأغنية الرئيس نيكولاس مادورو و هو يصفق و يضحك كمن لا يهتم أو يعبأ إطلاقاً بما يسببه من دمار و فساد ..

إلى أى مدى يستطيع شخص ما إستفزاز شعب بأكمله و الإستخفاف بعقله إلى هذا الحد ؟ .. لا تعلم الإجابة ؟ .. دعنى أخبرك إذن ..

بمقدار جهلهم .. بل بعشرة أضعاف مقدار جهلهم .. جهل شعب و أمة كاملة .. شعب إختار أن لا يروض فضوله .. و تعلم ألا يسأل .. أبداً ..

و ها هى صورة فى قمة الهزلية .. جماهير غاضبة لا تدرى كيف تتحكم أو توجه غضبها تملأ الشوارع .. بينما تدوى أغنية ديسباسيتو المزيفة فى كل السماعات لتضفى على غضب الجماهير لحن ساخر حقاً ..

ديسباسيتو .. و يرقص الكاباليرو ..

الجماهير تتظاهر .. بينما يرقص الكاباليرو ..

قوات الأمن تجرى خلف الجموع .. و يرقص الكاباليرو ..

أنت تسأل لماذا يرقص ؟!!

عجباً ..

ظننتك ستسأل لماذا الشعب ثائر يتظاهر ! .. و لكنك مرة أخرى لم تتحكم فى فضولك .. تركته يركض خلف الهدف الخطأ .. كان عليك أن تروضه و تسأل .. لم يتظاهر الشعب الفنزويلي ؟! .

هناك إجابتين لهذا السؤال ..

إجابة يعرفها أى شخص مطلع على قنوات الأخبار العالمية … و إجابة أخرى .. تأكدت معظم قنوات الأخبار العالمية أن لا تعلن عنها إطلاقاً ..

الإجابة الأولى و التى يعرفها الجميع .. هى أن الإقتصاد الفنزويلى كان فى أزهى عصوره منذ عام 1999 حتى عام 2014 .. تحت حكم رجل قد تكون سمعت عنه .. هيوجو شافيز .

قد تكون لا تدرى هذا .. و لكن فنزويلا تمتلك عدد من أكبر و أكثر آبار البترول … أكثر و أكبر من تلك التى تمتلكها المملكة السعودية العربية .. و لكن على عكس ما فعله أمراء و ملوك تلك الدول العربية .. سيخبرونك أن شافيز قد أخطأ الخطأ الأعظم .. و أنه قد قرر أن لا يأكل كل تلك الثروات الطائلة وحده .. بل شارك فيها شعبه بالكامل .

قبل أن يصعد شافيز إلى الحكم بعد الثورة البوليفارية .. كانت نسب الفقر فى فنزويلا تتخطى ال60% من الشعب .. و خلال 10 سنوات فقط من حكمه .. هبطت تلك النسبة إلى أقل من 25% .

سيخبرونك أيضاً أن من أخطاء شافيز أنه جعل الإقتصاد الفنزويلى معتمد بالكامل على سعر البترول .. و أن ما حدث لفنزويلا من نكسة و فقر .. حدث فقط بسبب هبوط سعر البترول فجأة فى 2014 .

إنت كنت ترى فى كلامى هذا تشابه لتجربتين لدولتين عربيتين تحيط بمصر .. فأنت محق .. ليبيا و المملكة السعودية العربية .. و لكنى هنا أتحدث فقط عن فنزويلا .. و عن ما حدث بعد ما مات شافيز و صعد مادورو للحكم .

ما زلت أنت تسأل لم يرقص الكاباليرو ..

حسناً إذن .. أنظر جيداً ..

نعم أنظر له جيداً و هو يرقص .. ركز كل بصرك و إهتمامك عليه ..

تماماً كما يفعلون هم جميعهم الآن .. قوات الأمن المحيطة بهذا الشارع الضخم ..

تعليماتهم أن يوقفوا أى نوع من التظاهر فى هذا الشارع .. و لكنهم مثلك يسألون .. لماذا يرقص هذا الطويل ؟!! ..

بتلك الطريقة المسماة برقص الشوارع .. تحتاج الكثير من التوافق العضلى و المرونة و المهارة لترقص بتلك الطريقة ..

ديسباسيتو ..

بدأ عدد أكبر من الجماهير فى هذا الشارع بالإنتباه لهذا الراقص و عمل دائرة حوله ..

ديسباسيتو ..

بدأ عدد أكبر منهم بالتفاعل معه و الضحك و الرقص حوله ..

ديسباسيتو ..

توقفت نسبياً الجماهير عن التقدم بشكل متباطئ فى الشارع تجاه قوى الأمن .. و بدأت فى الرقص على ألحان الأغنية ..

ديسباسيتو .. و يستمر الكاباليرو بالرقص ..

أتراهم الآن ؟ ..

يمكنك أن تميزهم بسهولة وسط الشعب الراقص .. بل يمكنك أن تعدهم أيضاً ..

لن يتعدوا العشرون فرداً ..

لا يرقصون ..

بل ينظرون حولهم فى عصبية يتعجبون لما توقف الشعب عن التظاهر ..

يحاول كل منهم دفع من حوله للتظاهر و الثورة مرة أخرى .. إلا أن من حوله يظنون أنه يدفعهم للرقص  .. فيرقصون بحماس أكبر ..

ديسباسيتو .. و توقف الكاباليرو عن الرقص ..

و ننطلق نحن .. نحن من كنا ننظر لظهر الكاباليرو المنتظر على ضفاف التشاما ..

نحن أتباع الكاباليرو .. و أنا “البيون العجوز ” ..

ننطلق لنصطاد هؤلاء الذين لا يرقصون .. من الصعب عليهم أن يرفضوا القدوم معنا .. بمجرد أن يرى أى منهم هذا الوشم على ذراع أحد منا .. يعلم أنه إن لم يأتى معنا بهدوء .. فسينتهى مصيره إلى حيث إنتهى مصير من رفض قبله .. إلى أعماق التشاما .. نهر المجاري ..

نجمعهم و نقتادهم جميعاً إلى هذا المبنى المهجور فى أطراف المدينة .. حيث وقف الكاباليرو ..

لن أخبرك بالتأكيد عن تفاصيل مشهد إستجواب أحدهم .. أعتقد أنك شاهدت ما يكفى من الأفلام لتتخيله بنفسك .. الأسهل و الأكثر كفاءة يمكنك أن تتخيل أحدهم يقول كل التفاصيل مباشرة :

  • نعم نحن تم تأجيرنا لنندس بين صفوف المتظاهرين و نكون منهم .
  • نعم طلبوا مننا رفع حماس الجماهير و تأجيج غضبهم .
  • نعم طلبوا مننا أن نبتدى بالهجوم على قوات الأمن و محاولة قتل أحدهم .
  • نعم طلبوا مننا أن نحرق عدد من المحلات و السيارات .
  • PDVSA هم من طلبوا مننا ذلك من خلال عدد من الوسطاء كى لا يظهرون فى الصورة أو يبدو أن لهم أى علاقة بما يحدث .

تسألنى من هم PDVSA ؟! ..

أحسنت ..

للمرة الأولى الآن تطوع فضولك ليسأل السؤال الصحيح .

Petroles De Venezuela Sociedad Anonima

الشركة المسئولة عن إستخراج و إدارة آبار البترول فى فينيزويلا ..

و لكنك لا تعتقد حقاً أن الشركة نفسها هى من تريد أن تستمر حالة الفوضى فى فينيزويلا أليس كذلك ؟! ..

إن كنت تعتقد هذا فأنت حقاً لم تستخدم فضولك حتى الآن يا عزيزى .. و ستظل ناظراً لى منتظراً من “البيون العجوز ” أن يخبرك بما يعلم ..

لاحقاً يا عزيزى لاحقاً ..

الآن .. علينا أن نقود هؤلاء العشرون إلى حيث إنتهى أمثالهم على مدار العامين الماضيين ..

رحلة طويلة ستكون مرة أخرى لجبال الكوردييرلا ..

لكنه تلك المرة لن يأتى معنا ..

لن يكون فى مقدمتنا كالمعتاد ..

الكاباليرو قادم لك يا عزيزى ..

قادم إلى إيخيبتو ..

قادم إلى …

مصر ..

*****

إنه أنا مجدداً ..

هل شاهدت أحدهم يتم طعنه بسكين أمامك مباشرة من قبل ؟ .. ثم طلب منك من طعنه أن تحمل معه الجثة ؟ .. بتلك البساطة ؟!!

” إنت هببت إيه ؟!!!!” صرخت بكل ما تبقى فى أعصابى من قوة ..

“إنت .. إنت .. قتلت راضى !!! ” ..

نظر لى البيدق نظرة خاوية من أى مشاعر أو ردود فعل أو إنطباعات .. و بكل بساطة أجاب .. ” لا .. انا طعنته فقط ” .

لوهلة وددت أن أستل خنجره من ضهره و أطعنه به لأرى إن كان سيرد بنفس بساطته تلك على هذا أيضاً .. إلا إنى تمالكت أعصابى و بدأت فى إستعادة ما تدربت عليه فى تلك الغرفة فى الهوستيل على مدار الأسبوعين الماضيين .

سأقص ما حدث فى هذان الأسبوعين بالتفصيل لاحقاً .. و لكن الآن .. كان هناك أولويات أخرى لطاقتى ..

كان لابد من أن أطيع البيدق و أبدأ فى حمل راضى على كتفى .. ثقيل جداً هو حقاً .. ينزف على بغذارة .. و لكن حملته بحيث يضغط جسده على مكان الطعن فيساعد هذا تقليل سرعة النزف قليلاً ..

ثم بدأت فى السير خلف البيدق الذى لم يبطأ حتى فى خطواته إلى أعماق الصحراء .. كأنه يسير فى مكان يعرفه جيداً ..

حسناً .. دعنا نحلل الموقف بمنطقية ..

منذ رأيت البيدق منذ 15 يوم .. لم يبد من تصرفاته ما قد يقوده لقتل شخص مثل راضى بتلك البساطة ..

سألته عن إذا ما كان قتله .. و لكنه رد أنه لم يقتله .. هو طعنه فقط .. و منذ معرفتى به .. هو يفعل كل شىء لسبب .. كل شىء .. على الإطلاق ..

بإمكانى أن أقف و أبدأ فى طرح كل تلك الأسئلة التى تعصف بعقلى الآن ..

إلا أنى تذكرت القاعدة الثانية ..

“الموتى لا يهتمون أو يقلقون أو يخافون ” .

إذا نزعت عن أفكارى الإهتمام لأمر إنسان كراضى .. و القلق من عواقب مشاهدة جريمة طعن أمام عيناى .. و الخوف من أن يحدث لى من هذا البيدق ما حدث للتو لراضى ..

يتبقى من أفكارى فضول جم لمعرفة لماذا … لماذا فعل البيدق هذا ؟!! ..

إلا أن هنا أتذكر القاعدة الثالثة ..

” لا تتعجل العلم .. و عندما يأتيك .. كن مستعداً للتعلم ” ..

حسناً إذن .. فى قاعدتان فقط من الثلاث قواعد الأساسية فى عالم الموت التى تلاها على البيدق فوق سطح تلك البناية منذ 15 يوم .. فى قاعدتان فقط منهم أجد ما يساعدنى على التفكير بشكل أكثر هدوءاً و منطقية فيما يحدث ..

تماماً كمقص أوكام .. عندما تنتفى المستحيلات .. تتبقى الحلول المنطقية ..

إذن .. الوضع الحالى .. كان الوضع الوحيد الممكن ..

كان لابد من طعن راضى ..

إذن المكان الذى نحن فى طريقنا له الآن .. مكان يتطلب أن نحمل معنا شىء كهذا … شخص ذو جرح غائر ..

إجابة واحدة تتبلور عندما أفكر فى الأمر بتلك الطريقة ..

“مستشفى ! “.. كلمة واحدة قلتها بدون صيغة سؤال .. و لكن كصيغة تعجب .. تعجب من بساطة الإجابة ..

قد لا تلاحظ أنت ما حدث .. و لكنى و بعد 15 يوماً من السير خلف البيدق و مشاهدة ظهره طيلة الوقت .. لاحظت تلك الوقفة البسيطة للغاية التى وقفها فى أحد خطواته .. ثم أكمل الخطى …

لم يخبرنى أبداً .. و لكنى أكاد أقسم أنه إبتسم إبتسامة خافتة .. لا تسألنى كيف عرفت هذا من مشاهدة ظهره … صدقنى .. لو مررت بما مررت به أنا أيضاً .. ستعرف .

و لم أكن لأسأله أبداً عن إذا ما كان توقعى صواب أم خطاً ..

ألا تذكر القاعدة الأولى … ” الموتى لا يسئلون مقابل .. أبداً ” ..

و لم أنتظر طويلاً للتأكد من صواب توقعى ..

بمجرد أن وصلنا لتبة مرتفعة قليلاً و وقفنا فوقها …

أصبح المشهد بعدها واضح ..

فهناك .. و على بعد مئات المترات .. كان هناك خيمة عصرية كبيرة الحجم نوعاً ما كتلك التى يتم إستخدامها فى رحلات السافارى ..

بجانبها سيارة نصف صندوق دفع رباعى حديثة الموديل أيضاً .. و أمامها ما يسمى بتعريشة حطب للنار بين حوض من الصخور .. النار خامدة .. و لكن فوقها جسد حيوان أعتقد أنه غزال على شواية بدائية من المعدن .. تلك التى تديرها بيدك للشوى ..

لم أكد أرى هذا المشهد و قبل أن تعبر كلمة من عقلى إلى أحبالى الصوتية .. وجدت يدك البيدق قد إمتدت بسرعة لتغلق فمى ..

و للمرة الأولى منذ رأيته منذ 15 يوماً .. سمعته يعلى صوته .. و لم يكن مجرد نبرة صوته العالية للغاية هى ما أصابتنى بالدهشة ..

بل ما قاله هو للفراغ أمامه بصوت هادر ما جعل عيناى تتسعان فى ذعر ..

” حاسيبك تقتلنى المرة دى لو عايز.. بس عالجه الأول ” ..

ثم أمسك راضى من فوق كتفى .. و هو ما زال يضع إحدى يديه على فمى ! … لاحظت أنه لم يجد أى صعوبة فى ذلك .. لابد أن راضى يتخطى المائة كيلوجرام بسهولة .. إلا أن البيدق أمسكه بوضع تشريحى ليديه كأنه لا يحمل أى ثقل على الإطلاق .. ثم ألقاه أرضاً قائلاً ” قدامه 3 ساعات و يموت ” ..

لولا يد البيدق التى ما زالت على فمى و لكنها الآن ممسكة بوجهى بكامله .. لإنتفضت من مكانى الذى أقف فيه ..

فعلى بعد خطوات من موطأ قدمى .. تحركت الرمال بشكل سريع نسبياً .. تحركت ليظهر من بينها شخص كان يختبئ بكامل جسده تحت الرمال ..

لا يظهر منه سوى عينين من خلف لثام يغطى كل وجهه و  زى مموه بألوان الصحراء ذاتها يغطى جسده المتحفز بالكامل .. إحدى يداه تختفى خلف ظهره .. و الأخرى تمسك بحبل طرفه فى يده و الطرف الآخر يختبئ تحت الرمال .. مباشرة إلى أسفل قدمينا أنا و البيدق ..

من خلف لثامه رأيته نظر لى سريعاً من أسفل قدماى إلى أعلى رأسى .. كأنه جهاز مسح إشعاعى .. ثم أدار بصره ليواجه البيدق .. نظرة إن أردت وصفتها بشىء لن أجد كلمة غير الكراهية .. الكراهية المطلقة ..

ما حدث بعد ذلك إستغرق ثوان قليلة .. إلا أن من يعيش تجارب مشابهة يدرك أنها تعبر كالساعات على من يمر بالتجربة نفسه ..

فبمجرد ظهور هذا الملثم من بين الرمال .. وجدت يد البيدق الأخرى تمسك بتلابيب قميصى .. فى حين كانت يده الأولى على فمى .. و قبل أن أدرك ماذا يحدث .. بمجرد أن حول الملثم نظره إلى البيدق .. وجدت نفسى أطير فى الهواء على بعد ثلاث أمتار على الأقل منهم .. لم أستوعب أن البيدق قد ألقانى بقوة هائلة كتلك إلا بعد أن تدحرجت عدة مرات فى الرمال و نظرت خلفى لهم الأثنان .. لأجد الملثم قد قفز إلى الخلف بسرعة ثم سحب طرف الحبل الذى كان يمسكه بيده بقوة .

و من أربع أطراف محيطين بالبيدق إنطلقت من أسفل الرمال أربع طلقات تحتوى على شباك صيد غليظة كتلك التى يتم إستخدامها لصيد الحيوانات المفترسة .. بمجرد إنطلاقهم تمددت الشباك و أحاطت بالبيدق .. بل الأدق أن يقال .. أطبقت بالكامل عليه .

لم يستغرق هذا سوى أقل من ثلاث ثوان .. ثلاث ثوان كاملة .. لم يتحرك فيهم البيدق من مكانه بعد ما ألقانى خارج نطاق الشباك ..

بل كانت يداه مرة أخرى فى جيبيى بنطاله كأول مرة رأيته فيها .. واقف صامت ساكن بينما يحيط به من كل جانب شباك تجعل حركته شبه مستحيلة .. لو أراد أن يتحرك سنتيميتر واحد لسقط أرضاً كتمثال .

بمجرد أن أطبقت الشباك عليه .. إنطلق الملثم ..

إنطلق يجرى بإتجاه البيدق الواقف كالتمثال .. و عندها أستطعت أن أميز ما كان يمسكه بيده المختفية خلف ظهره ..

خنجر ..

خنجر مطابق لذلك الذى إستخدمه البيدق لطعن راضى منذ أقل من ساعة ..

خنجر كان فى طريقه إلى قلب البيدق فى تلك اللحظة ..

عند تلك اللحظة لم أستطع أن أظل صامتاً أكثر .. و صرخت ..

صرخت و لا أدرى أى سبب بداخلى يقودنى إلى إنقاذ شخص كالبيدق فى مثل تلك الظروف و الأحداث العجيبة التى أمر بها منذ أسبوعين ..

صرخت بكل ما ملكت من قوة فى تلك اللحظة ” إستنى ! ” ..

و لدهشتى … توقف ..

توقف الملثم على بعد سنتيميترات من طعن الخنجر بقلب البيدق حتى غمده ..

توقف لتأكده من أن البيدق الواقف أمامه كالتمثال لن تدعه تلك الشباك يذهب إلى أى مكان ..

و من خلف اللثام سمعته .. يتحدث العربية .. و لكنها ليست مصرية بالتأكيد .. لأنها كانت عربية .. فصحى .. “لماذا ؟ ” ..

دهشت من سماعى لصوته يتحدث الفصحى .. و لكنى دهشت أكثر عندما وجدتنى بشكل لا إرادى أجيب عليه بالفصحى أيضاً .. ” لماذا أنت ستقتله .. ماذا فعل ؟! ” ..

أجابنى مباشرة بدون أى إنتظار .. ” قتل … قتل زوجتى ” ..

رددت بتلقائية أى شخص يدافع عن صورة فى ذهنه قبل أن يستمع لأى صوت منطقى أو حقائق .. “مستحيل ” .. و وجدت جسدى رغماً عنى يدفعنى للجرى بإتجاههم لأبعاد هذا الخنجر عن قلب البيدق ولو لبضع سنتيمترات أخرى ..

إلا أن البيدق تحدث للمرة الثانية منذ بدأت تلك الأحداث ..

تحدث بالفصحى أيضاً .. و لكن لم يكن كيف تحدث هو ما جعلنى أتوقف عن محاولتى فى ذهول ..

بل ما تحدث به ..

” بل حدث فعلاً .. و امامه” … ثم إبتسم و أكمل ..

” أنا قتلت زوجته .. امام عينيه “

*************